فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أن عادة الله تعالى جارية في القرآن بأنه كلما ذكر الدلائل الموجودة في الأنفس، فإنه يذكر عقيبها الدلائل الموجودة في الآفاق فجرى هاهنا على تلك العادة وذكر دلائل الآفاق وبدأ بما يحتاج الإنسان إليه.
فقال: {فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إِلَى طعامه}.
الذي يعيش به كيف دبرنا أمره، ولا شك أنه موضع الاعتبار، فإن الطعام الذي يتناول الإنسان له حالتان إحداهما: متقدمة وهي الأمور التي لابد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود والثانية: متأخرة، وهي الأمور التي لابد منها في بدن الإنسان حتى يحصل له الانتفاع بذلك الطعام المأكول، ولما كان النوع الأول أظهر للحسن وأبعد عن الشبهة، لا جرم اكتفى الله تعالى بذكره، لأن دلائل القرآن لابد وأن تكون بحيث ينتفع بها كل الخلق، فلابد وأن تكون أبعد عن اللبس والشبهة، وهذا هو المراد من قوله: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} واعلم أن النبت إنما يحصل من القطر النازل من السماء الواقع في الأرض، فالسماء كالذكر، والأرض كالأنثى فذكر في بيان نزل القطر.
قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قوله: {صببنا} المراد منه الغيث، ثم انظر في أنه كيف حدث المشتمل على هذه المياه العظيمة، وكيف بقي معلقاً في جو السماء مع غاية ثقله، وتأمل في أسبابه القريبة والبعيدة، حتى يلوح لك شيء من آثار نور الله وعدله وحكمته، وفي تدبير خلقة هذا العالم.
المسألة الثانية:
قرئ {إنا} بالكسر، وهو على الاستئناف، وأنا بالفتح على البدل من الطعام والتقدير فلينظر الإنسان إلى أن كيف صببنا الماء قال أبو على الفارسي: من قرأ بكسر {إنا} كان ذلك تفسيراً للنظر إلى طعامه كما أن قوله: {لهم مغفرة} [الأنفال: 74] تفسير للوعد، ومن فتح فعلى معنى البدل بدل الاشتمال، لأن هذه الأشياء تشتمل على كون الطعام وحدوثه، فهو كقوله: {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه} [البقرة: 217] وقوله: {قتل أصحاب الأخدود النار} [البروج: 4، 5].
قوله تعالى: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}.
والمراد شق الأرض بالنبات، ثم ذكر تعالى ثمانية أنواع من النبات: أولها: الحب: وهو المشار إليه بقوله: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا}.
وهو كل ما حصد من نحو الحنطة وغيرهما، وإنما قدم ذلك لأن كالأصل في الأغذية.
{وَعِنَبًا وَقَضْبًا}.
وثانيها: قوله تعالى: {وعنباً} وإنما ذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه.
وثالثها: قوله تعالى: {وقضباً}.
وفيه قولان: الأول: أنه الرطبة وهي التي إذا يبست سميت بالقت، وأهل مكة يسمونها بالقضب وأصله من القطع، وذلك لأنه يقضب مرة بعد أخرى، وكذلك القضيب لأنه يقضب أي يقطع.
وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل واختيار الفراء وأبي عبيدة والأصمعي.
والثاني: قال المبرد: القضب هو العلف بعينه، وأصله من أنه يقضب أي يقطع وهو قول الحسن.
والرابع والخامس: قوله تعالى: {وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً} ومنافعهما قد تقدمت في هذا الكتاب.
وسادسها: قوله تعالى: {وَحَدَآئِقَ غُلْبًا} الأصل في الوصف بالغلب الرقاب فالغلب الغلاظ الأعناق الواحد أغلب يقال أسد أغلب، ثم هاهنا قولان: الأول: أن يكون المراد وصف كل حديقة بأن أشجارها متكاثفة متقاربة، وهذا قول مجاهد ومقاتل قالا: الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض، يقال اغلوب العشب واغلولبت الأرض إذا التف عشبها.
والثاني: أن يكون المراد وصف كل واحد من الأشجار بالغلظ والعظم، قال عطاء عن ابن عباس: يريد الشجر العظام، وقال الفراء: الغلب ما غلظ من النخل.
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}.
{مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}.
وسابعها: قوله: {وفاكهة} وقد استدل بعضهم بأن الله تعالى لما ذكر الفاكهة معطوفة على العنب والزيتون والنخل وجب أن لا تدخل هذه الأشياء في الفاكهة، وهذا قريب من جهة، الظاهرة، لأن المعطوف مغاير للمعطوف عليه.
وثامنها: قوله تعالى: {وأباً} والأب هو المرعى، قال صاحب (الكشاف): لأنه يؤب أي يؤم وينتجع، والأب والأم أخوان قال الشاعر:
جذمنا قيس ونجد دارنا ** لنا الأب به والمكرع

وقيل الأب الفاكهة اليابسة لأنها تؤدب للشتاء أي تعد، ولما ذكر الله تعالى ما يغتذى به الناس والحيوان.
قال: {متاعاً لكم ولأنعامكم}.
قال الفراء: خلقناه منفعة ومتعة لكم ولأنعامكم، وقال الزجاج: هو منصوب لأنه مصدر مؤكد لقوله: {فأنبتنا} لأن إنباته هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوان. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طعامه}
لما ذكر جل ثناؤه ابتداء خلق الإنسان، ذكر ما يُسَّر من رزقه؛ أي فلينظر كيف خَلَق الله طعامه.
وهذا النظر نظر القلب بالفكر؛ أي ليتدبرْ كيف خَلَق الله طعامه الذي هو قِوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، ليستعد بها للمعاد.
ورُوِي عن الحسن ومجاهد قالا: {فَلينْظرِ الإنسان إِلى طعامه} أي إلى مُدْخله ومُخْرجه.
وروى ابن أبي خيْثمة عن الضحاك بن سفيان الكلابيّ قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ضحاكُ ما طعامك» قلت: يا رسول الله! اللَّحم واللبن؛ قال: «ثم يصير إلى ماذا» قلت إلى ما قد علمته؛ قال: «فإنّ الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا».
وقال أبيّ بن كعب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مَطْعَمَ ابن آدم جُعِل مثلاً للدنيا وإن قَزَحَه ومَلَّحه فانظر إلى ما يصير».
وقال أبو الوليد: سألت ابن عَمر عن الرجل يدخل الخَلاء فينظر ما يخرج منه؛ قال: يأتيه الملك فيقول انظر ما بَخِلت به إلى ما صار؟
قوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً} قراءة العامة {أنا} بالكسر، على الاستئناف.
وقرأ الكوفيون ورُوَيْس عن يعقوب {أنا} بفتح الهمزة، ف {أنا} في موضع خفض على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه؛ كأنه قال: {فلينظرِ الإِنسان إِلى طعامه} إلى {أنا صببنا}، فلا يحسُن الوقف على {طعامه} من هذه القراءة.
وكذلك إن رفعت {أنا} بإضمار هو أنا صببنا؛ لأنها في حال رفعها مترجِمة عن الطعام.
وقيل: المعنى: لأنا صببنا الماء، فأخرجنا به الطعام، أي كذلك كان.
وقرأ الحسين بن على {أَنَّى} ممال، بمعنى كيف؟ فمن أخذ بهذه القراءة قال: الوقف على {طعامه} تام.
ويقال: معنى {أنَّى} أين، إلا أنّ فيها كناية عن الوجوه؛ وتأويلها: من أي وجه صَببنا الماء؛ قال الكميت:
أَنَّى ومِنْ أينَ آبكَ الطَّرَبُ ** مِن حيثُ لا صَبْوةٌ ولا رِيبُ

{صببنا الماء صباً}: يعني الغيث والأمطار.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً}: أي بالنبات {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حبًّا} أي قمحاً وشعيراً وسُلْتاً وسائر ما يُحْصَد ويدّخر {وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو القَتّ والَعلَف؛ عن الحسن: سمي بذلك لأنه يُقْضَب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة.
قال القُتَبيّ وثعلب: وأهل مكة يسمون القَتَّ القَضْب.
وقال ابن عباس: هو الرّطب لأنه يُقَضب من النخل: ولأنه ذكر العِنب قبله.
وعنه أيضاً: أنه الفِصفِصة وهو القَتّ الرطب.
وقال الخليل: القضب الفِصْفِصة الرطبة.
وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قَتٌّ.
قال: والقضْب: اسم يقع على ما يُقْضب من أغصان الشجرة، ليتخذ منها سِهام أو قِسِيّ.
ويقال: قَضْباً، يعني جميع ما يقضب، مثل القَتِّ والكُرَّاث وسائر البقول التي تقطع فينبت أصْلها.
وفي الصحاح: والقَضْبة والقَضْب الرَّطْبة، وهي الإسفِسْت بالفارسية، والموضع الذي يَنْبُت فيه مَقْضَبة.
{وَزَيْتُوناً} وهي شجرة الزيتون {وَنَخْلاً} يعني النخيل {وَحَدَآئِقَ} أي بساتين واحدها حديقة.
قال الكلبي: وكل شيء أَحيط عليه من نخيل أو شجر فهو حديقة، وما لم يُحَط عليه فليس بحديقة.
{غُلْباً} عظاماً شجرها؛ يقال: شجرة غَلْباء، ويقال للأسد: الأغلب؛ لأنه مُصْمَت العنق، لا يلتفت إلا جميعاً؛ قال العجاج:
ما زِلتُ يوم البَيْن أَلوِي صَلَبِي ** والرأَسَ حتى صِرتُ مِثلْ الأَغلبِ

ورجل أغلب بيّن الغَلَب إذا كان غليظ الرقبة.
والأصل في الوصف بالغلَب: الرقاب فاستعير؛ قال قال عمرو بن مَعْدِي كرِب:
يَمشِي بها غُلْب الرقابِ كأَنهم ** بُزْل كُسِين مِن الكُحَيْلِ جِلالا

وحديقة غلباء: ملتفة وحدئق غُلْب.
واغلولب العشب: بلغ والتف البعض بالبعض.
قل ابن عباس: الغُلْب: جمع أغلب وغلباء وهي الغِلاظ.
وعنه أيضاً الطِّوال.
قتادة وابن زيد: الغُلْب: النخل الكرام.
وعن ابن زيد أيضاً وعِكرمة: عظام الأوساط والجذوع.
مجاهد: ملتفة.
{وَفَاكِهَةً} أي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخَوْخ وغيرهما {وَأَبّاً} هو ما تأكله البهائم من العُشب؛ قال ابن عباس والحسن: الأَبُّ: كل ما أنبتت الأرض، مما لا يأكله الناس، ما يأكله الآدميون هو الحَصيد؛ ومنه قول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
لَه دَعْوة ميْمونة ريُحها الصَّبا ** بها يُنبِتُ الله الحصِيدة والأَبَّا

وقيل: إنما سمي أَبًّا؛ لأنه يُؤَبُّ أي يُؤَمّ ويُنْتجَع.
والأَب والأم: أَخَوان؛ قال:
جِذمنا قيسٌ ونجدٌ دارنا ** ولنا الأَبُّ بِهِ والمَكْرَع

وقال الضحاك: والأب: كل شيء ينبت على وجه الأرض.
وكذا قال أبو رَزِين: هو النبات.
يدلّ عليه قول ابن عباس قال: الأبُّ: ما تنبت الأرض مما يأكل الناس والأنعام.
وعن ابن عباس أيضاً وابن أبي طلحة: الأبّ: الثمار الرَّطْبة.
وقال الضحاك: هو التين خاصة.
وهو محكي عن ابن عباس أيضاً؛ قال الشاعر:
فما لَهُمُ مَرْتَعٌ لِلسَّوا ** مِ والأَبُّ عندَهم يُقْدَرُ

الكلبيّ: هو كل نبات سوى الفاكهة.
وقيل: الفاكهة: رَطْب الثمار، والأب يابسها.
وقال إبراهيم التيميّ: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن تفسير الفاكهة والأب فقال: أيُّ سماء تُظِلني، وأيُّ أرض تُقِلُّني إذا قلت: في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعَمْر اللَّهِ التكلُّف، وما عليك يا بن أم عُمَر ألاَّ تدري ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما بُيِّن لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه.
ورُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خُلِقتم من سبْع، ورزِقتم من سبع، فاسجدوا لله على سبْع» وإنما أراد بقوله: «خلقتم من سبع» يعني {مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} [الحج: 5] الآية، والرزق من سْبع، وهو قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حبًّا} إلى قوله: {وَفَاكِهَةً}، ثم قال: {وَأَبّاً} وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنه مما تختص به البهائم.
والله أعلم.
{مَّتَاعاً لَّكُمْ} نصب على المصدر المؤكِّد، لأن إنبات هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوانات.
وهذا ضرب مثلٍ ضربه الله تعالى لبعث الموتَى من قبورهم؛ كنبات الزرع بعد دُثُوره، كما تقدم بيانه في غير موضع.
ويتضمن امتنانا عليهم بما أنعم به، وقد مضى في غير موضع أيضاً. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طعامه}
على معنى إذا كان هذا حال الإنسان وهو أنه إلى الآن لم يقض ما أمره مع أن مقتضى النعم السابقة القضاء فلينظر إلى طعامه إلخ لعله يقضي وفي (الحواشي العصامية) لا يخفى ما في قوله تعالى: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] من كمال تهييج الإنسان وتحريضه على امتثال ما يعقبه من الأمر بالنظر وتفريع الأمر عليه مبني على أن الائتمار كما ينبغي أن يتيسر بعد الارتداع عما هو عليه والظاهر أن المراد بالإنسان هنا نحو ما أريد به في قوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان} [عبس: 17] ولما جوز (صاحب الحواشي) المذكورة حمل عدم القضاء على السلب الكلي وجعل الكلام في الإنسان المبالغ في الكفر قال فالمراد بضمير {يقض} غير الإنسان الذي أمر بالنظر فإنه عام فلذا أظهر وتضمن ما مر ذكر النعم الذاتية أي ما يتعلق بذات الإنسان من الذات نفسها ولوازمها وهذا ذكر النعم الخارجية المقابلة لذلك وقيل الأولى نعم خاصة والثانية نعم عامة وقيل تلك نعم متعلقة بالحدوث وهذه نعم متعلقة بالبقاء وفيه نظر والظاهر أن المراد بالطعام المطعوم بأنواعه واقتصر عليه ولم يذكر المشروب لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب واعتبار التغليب لا يخفى ما فيه وقوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء} بدل منه بدل اشتمال فإنه لكونه من أسباب تكونه كالمشتمل عليه والعائد محذوف أي {صَبَبْنَا} له وجوز كونه بدل كل من كل على معنى فلينظر الإنسان إلى انعامنا في طعامه أنا {صَبَبْنَا} إلخ وهو كما ترى وأياً ما كان فالمقصود بالنظر هو البدل وبذلك يضعف ما روى عن أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم أن المعنى فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعاً ليتأمل عاقبة الدنيا وما تهالك عليه أهلها ولعمري أن هذا بعيد الإرادة عن السياق ولا أظن أنه وقع على صحة روايته عن هؤلاء الأجلة الاتفاق وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس وجوز بعضهم إرادة الأعم وقال إن في كل ماء صبا من الله تعالى بخلق أسبابه على أصول النباتات وأنت تعلم أن إيصال الماء إلى أصول النباتات يبعد تسميته صباً وتأكيد الجملة للاعتناء بمضمونها مع كونها مظنة لإنكار القاصر لعدم الإحساس بفعل من الله تعالى وإنما يعرف الاستناد إليه عز وجل بالنظر الصحيح وقرأ الأكثر إنا بالكسر على الاستئناف البياني كأنه لما أمر سبحانه بالنطر إلى ما رزقه جل وعلا من أنواع المأكولات قيل كيف أحدث ذلك وأوجد بعد أن لم يكن فقيل {أَنَّا صَبَبْنَا} إلخ وقرأ الإمام الحسين بن أمير المؤمنين على كرم الله تعالى وجههما ورضي سبحانه عنهما أنى {صَبَبْنَا} بفتح الهمزة والإمالة على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء {صَبّاً} عجيباً.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض} أي بالنبات كما قال ابن عباس {شَقّاً} بديعاً لائقاً بما يشقها من النبات صغراً وكبراً وشكلاً وهيئة وقيل شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عز وجل هو الموجد حقيقة فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر عنه إيجاداً ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حبًّا} فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الأمطار أصلاً ولأبينه وبين إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبئ عنه أرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال وقيل عليه أيضاً أن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على سبيل التمثيل أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء أمطار المطر وبهذا إجراء الأنهار وتعقب بأنه يأباه ترتب الشب على صب الماء بكلمة التراخي وأيضاً ترتب الانبات على مجموع الصب والشق بالمعنى المذكور لا يلائم قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حبًّا} [النبأ: 14، 15] الآية لإشعاره باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك ودفعاً بأن ماء العيون من المطر لا من الأبخرة المحتبسة في الأرض ولا يخفى على ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف والمراد بالحب جنس الحبوب التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها.
{وَعِنَباً} معروف {وَقَضْباً} أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال إذا يبست فهي القت وسميت بمصدر قضبه أي قطعه مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره نفس القطع وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضاً من النبات كالبقول والهليون وفي (البحر) عن الحبر أنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه.
{وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} هما معروفان.
{وَحَدَائِقَ} رياضاً {غُلْباً} أي عظاماً وأصله جمع أغلب وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه قول الأعشى:
يمشي بها غلب الرقاب كأنهم ** بزل كسين من الكحيل جلالا

ووصف الحدائق بذلك على سبيل الاستعارة شبه تكاثف أوراق الأشجار وعروقها بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع اندماج بعضها في بعض في غلظ الرقبة ولا يرد أن الغلظ في الأشجار أقوى لأن الأمر بالعكس نظراً إلى الاندماج وتقوي البعض بالبعض حتى صارت شيئاً واحدًّا وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل كما في المرسن بأن يراد بالأغلب الغليظ مطلقاً وتجوز في الإسناد أيضاً لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها وقال بعض المراد بالحدائق نفس الأشجار لمكان العطف على ما في حيز {أنبتنا} فلا تغفل.
{وفاكهة} قيل هي الثمار كلها وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وأياً ما كان فذكر ما يدخل فيها أولاً للاعتناء بشأنه {وَأَبّاً} عن ابن عباس وجماعة أنه الكلأ والمرعى من أبه إذا أمه وقصده لأنه يؤم ويقصد أو من أب لكذا إذا تهيأ له متهئ المرعى ويطلق على نفس مكان الكلأ ومنه قوله:
جذمنا قيس ونجد دارنا ** ولنا الأب بها والمكرع

وذكر بعضهم أن ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيدة والحصيد وما يأكله غيرهم يسمى الأب وعليه قول بعض الصحابة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
له دعوة ميمونة ريحها الصبا ** بها ينبت الله الحصيدة والأبا

وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه التبن خاصة وقيل هو يابس الفاكهة لأنها تؤب وتهيأ للشتاء للتفكه بها وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الأب ما هو فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ على المنبر {فأنبتنا فيها حبًّا وعنباً} [عبس: 27] إلى قوله: وأباً فقال كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفض عصا كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ابتغوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه وفي (صحيح البخاري) من رواية أنس أيضاً أنه قرأ ذلك وقال فما الأب ثم قال ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا ويتراءى من ذلك النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته وفي (الكشاف) لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفاً فأراد رضي الله تعالى عنه أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطمعه واستدعاء شكره وقد علم من فحواها أن الأب بعض ما أنبت سبحانه للإنسان متاعاً له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر له عز وجل على ما تبين لك ولم يشكل مما عدد من نعمته تعالى ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن انتهى وهو قصارى ما يقال في توجيه ذلك لكن في بعض الآثار عن الفاروق كما في (الدر المنثور) ما يبعد فيه إن صح هذا التوجيه في شيء وهو أنه ينبغي أن خفاء تعيين المراد من الأب على الشيخين رضي الله عنهما ونحوها من الصحابة وكذا الاختلاف فيه لا يستدعي كونه غريباً مخلاً بالفصاحة وأنه غير مستعمل عند العرب العرباء وقد فسره ابن عباس لابن الأزرق بما تعتلف منه الدواب واستشهد به بقول الشاعر:
ترى به الأب واليقطين مختلطاً

ووقع في شعر بعض الصحابة كما سمعت ومن تتبع وجد غير ذلك.
{متاعا لَّكُمْ ولانعامكم} قيل إما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعاً لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم ويوزع وينزل كل على مقتضاه والالتفات لتكميل الامتنان وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعاً أو لفعل مرتب عليه أي فتمتعتم بذلك متاعاً أي تمتعاً أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر من الأفعال الثلاثة في معنى التمتيع وقد مر الكلام في نظيره فتذكر. اهـ.